فن

«أنف وثلاث عيون»: تعددت التأويلات والحيرة واحدة

بين فيلمَي «أنف وثلاث عيون» 1972 و2023، قراءة لتجربة الماضي ومغامرة الحاضر، لا بدافع المقارنة الفنية وإنما محاولة لبيان مواطن الاختلاف وأرضيات الاتفاق

future على اليمين: الملصق الدعائي لفيلم أنف وثلاث عيون إنتاج 2023. على الشمال: الملصق الدعائي لفيلم أنف وثلاث عيون إنتاج 1972

لطالما دأب صناع السينما على إعادة تقديم كلاسيكيات الأعمال الفنية وفق سياقات مبتكرة وعلى نحو أكثر حداثة، فالطموح المشروع لإعادة التدوير، من أجل صياغة مغايرة، يشكل هاجساً مؤرقاً، وعندها يصبح السؤال عن هوية الجديد المستنسخ من رحم القديم المعتق، أمراً حتمياً، لا مفر من مواجهته.

ومؤخراً أقدم المخرج أمير رمسيس على إعادة تشكيل رواية إحسان عبد القدوس أنف وثلاث عيون سينمائياً، بعد مرور ما يزيد على خمسين عاماً من عرض النسخة الأولى من الفيلم – العرض الأول نوفمبر 1972 - التي تصدى لإخراجها آنذاك حسين كمال، مستنداً إلى كتابة كل من مصطفى كامل وعاصم توفيق للسيناريو والحوار.

تُرى ما المثير في هذه القصة ويجعل شباك صيدها تعمل بكفاءة؟

فأحداث الرواية تدور حول الدكتور هاشم عبد اللطيف، الذي لا يعكر حياته الانسيابية السلسة سوى تعدد علاقاته غير المشبعة، سواء من الناحية العاطفية أو النفسية، لذا يتنقل من فتاة لأخرى بحثاً عن شيء ما، لكنه لا يدرك ماهيته على وجه التحديد، قصة قد تبدو يسيرة التلقي، لكنها تحوي بين سطورها ما هو أعمق من هذه الحكاية المكرر استهلاكها.

ولأن لكل نص قراءاته وتأويلاته التي تختلف من إطار لآخر، فقد تباينت النظرة والقراءة نفسها، ومن هنا تعددت زوايا الرؤية، التي تنطلق منها معالجة الموضوع محل التناول، وفي هذه المساحة نسعى لقراءة تجربة الماضي ومغامرة الحاضر، لا بدافع المقارنة الفنية، بقدر ما هي محاولة لبيان مواطن الاختلاف وأرضيات الاتفاق.

عيون متلصصة

تبدأ نسخة السبعينيات بمشاهد متفرقة لأمينة (ماجدة)، حيث الإسهاب في استعراض تفصيلات حياتها، الاعتيادي منها أو اللامألوف، وهكذا يستمر السرد في التدافع للأمام، مستنداً بأريحية إلى الاستحواذ المجاني لشخصية أمينة على الرقعة السردية، بينما في المقابل تقنع شخصية هاشم (محمود يس)، بالاحتفاظ بحق الظهور الثاني، رغم محورية الشخصية بين نسيج الحكي.

والعكس تماماً في النسخة الأحدث، حيث القوس الافتتاحي للأحداث ينطلق من زاوية هاشم (ظافر العابدين)، الذي يُطالعنا على الدوام والاستمرار، سواء بالحضور الجسدي الواضح الصريح، أو عَبر تقنيات التعليق الصوتي، الذي يجعله يحتفظ هنا بحق السيطرة الكاملة على مسار الأحداث.

وبنظرة بانورامية على هذه الاختلافات المبدئية، والتي يمكن حصرها في إطار زاوية التعبير، أو ما يطلق عليه الرؤية الفنية، التي هي بالتأكيد حق أصيل لصانع العمل، كل منهما يختار الأنسب والأكثر توفيقاً، من واقع المضمون الدرامي، الذي يرغب في تقديمه إلى المتفرج، ومن ثم يبدو المضمون مختلفاً في كل معالجة عن الأخرى، رغم تضامنهما في فطرية الفكرة نفسها، لكن ما يحيط هذه النبتة من رؤى وأفكار جانبية، هو الذي يشكل معيار هذا التباين.

فالفكرة الأولية تدور حول الحب وما يرافقه من حيرة وتخبط، هذا المتفق عليه، ولا خلاف حوله، لكن المشهيات الأخرى الملاصقة تبدو مغايرة من رؤية لأخرى، فالحديث عن أجواء السبعينيات بمعطياتها الفكرية لا يبدو ملائماً لزمننا الحالي، فالمعالجة السابقة وضعت جل اهتمامها في الحديث عن الحيرة والعلاقات غير المشبعة إنسانياً، كما أصبغت هذه الرؤية بملامح خاطفة يسهل ملامستها، عن الفاعل والمفعول به في نسيج هذه القصص المتشابكة.

أما الرؤية الأحدث، فالتناول نفسه يبدو مغايراً عما سبق، صحيح أننا أمام نفس الشخصية، لكن أزمتها ومعضلتها الوجودية هي ما تحدد بوصلة هذا الاختلاف، فالصراع الداخلي النفسي هو ما يشكل محور هذه الرؤية، حيث ثنائية الحيرة والبحث عن التحرر الذاتي، هما ما تتكئ عليهما بنية السرد.

وبالتالي تباين الشكل العام لهذه النسخة عن تلك، لا من ناحية الهوية الفكرية فحسب، لكن من ناحية المرفقات الأخرى، كالناحية البصرية، التي انساقت التجربة الأقدم فيها إلى اللقطات المتوسطة الأحجام الوصفية، بينما اتخذت النسخة الأحدث، من الزوايا المقربة، دليلاً لقراءة ما يدور في أعماق الشخصيات المهمومة بصراعاتها الذاتية.

هاشم وأمينة

في حين اختار سيناريو مصطفى كامل وعاصم توفيق حصر أمينة تحت عيون مجهر الحكي، فقد جنح سيناريو وائل حمدي إلى استبعاد أمينة من المسار الدرامي، والاكتفاء عوضاً عنها بشخصية رباب (سلمى أبو ضيف)، التي تصغر بطلنا بنحو خمسة وعشرين عاماً، لتنشأ هنا نقطة صراع، سينطلق منها خيوط الفيلم مشكلة النسيج العام للسرد، وبما يستدعي معه، بناء عالم متكامل، تضاف إليه شخصيات، وتُحذف أخرى، كلٌّ بحسب مدى الحاجة إليه من عدمه.

مشهد من فيلم أنف وثلاث عيون 2023

فالتجربة السابقة أفاضت في رسم عالم أمينة بجميع تفصيلاتها ووشائجها الذاتية، ومن ثم بدت مسيطرة على النحو الأكبر من الفصل الأول والثاني من السرد الفيلمي، حتى نصل إلى العين الثانية نجوى (نجلاء فتحي)، والتي تستغرق هي الأخرى المتبقي من الفصل الثاني، ومع الفصل الثالث يُدخلنا الحكي في سردية رباب (ميرفت أمين)، حتى تكتمل الدائرة باللقاء المفاجئ بين هاشم وأمينة.

مشهد من فيلم أنف وثلاث عيون 1972

بينما اتجهت المعالجة الحديثة، إلى التركيز الكلي على هاشم، سواء بإبراز ما يدور في حياته الخارجية، التي ما هي إلا انعكاس لمعاناته الداخلية، بحكم تناقضات الماضي، القابضة بيد حديدية على خبايا مكنونه الداخلي، وعندئذٍ تبدو الحاجة الملحة والضرورية، لخلق شخصية موازية، تُعدل من كفة الميزان السردي، وحينها يُنشئ السيناريو شخصية الدكتورة عالية (صبا مبارك)، التي يلجأ إليها هاشم لمساعدته في تخطي أزمته النفسية.

فكلٌّ من هاشم وعالية يبدو معادلاً للآخر، يساهم ماضيهما بفاعلية في التأثير المضاد على حاضره، فالحديث هنا عن البعد النفسي للشخصيات يشكل المحور الأساسي للتناول، في حين بدت تجربة السبعينيات مشغولة على نحو أكثر إسهاباً في الاستعراض الظاهري لتجارب هاشم العاطفية، التي ستؤثر لاحقاً على ما يدور من تفاعلات في الداخل الإنساني.

فالواقع أن هذا الكم من الاختلافات لم يؤثر ضمنياً على جوهر ومضمون العمل نفسه، بل أضاف له أبعاداً أكثر حيوية في التناول، وأكثر طزاجة بالمفهوم الزمني، وكأننا أمام فيلمين، رغم ارتباطهما كليهما بنفس النص الأدبي المستوحى منه صلب البنية السينمائية، فإننا بالفعل نتعرض لتجربتين، لكل منهما وحدة أفكارها القائمة بذاتها، لتصبح النسخة الأحدث، ليست إعادة تقديم Remake بالمعنى المتعارف عليه في الصناعة، بقدر ما هي محاولة لتقديم رؤية مغايرة عن نص يحتمل أكثر من قراءة، وينطوي على تأويلات عدة تسمح بأكثر من صياغة، بما تملكه من دلالات يمكنها الانصهار والتطويع بحكم السياقات الزمنية المتلاحقة.

هذا على نطاق الاختلاف الواضح الصريح، وعندها لا بد أن يُستدعى السؤال عن نقاط الاتفاق من قوائم الانتظار.

هوامش مكتملة

لكل شخصية قوسها الافتتاحي وما يقابله من قوس آخر ختامي، وبين هذين القوسين تدور حياة البطل وأزمته، التي تمثل في مضمونها لُب الصراع الدرامي، وبالنظر إلى شخصية هاشم نجد أن موطن قلقه الوجودي يدور بين رحى البحث عن الذات، سواء تمحورت هذه الذات في الآخر، أو بمعنى أكثر دقة في الالتقاء الدائم بمن يُحب ويرضى، مثلما اختار حسين كمال زاوية رؤيته.

فالشخصية تنتقل بحرية من هذه العلاقة إلى تلك، بحثاً عن الاكتمال، الذي يبدو معادلاً للتحرر، هذا التحرر الذاتي الذي انحازت إليه معالجة وائل حمدي الأكثر حداثة، فهنا يشكل البحث بين تشابكات النفس المعقدة عما يؤرق سلام هذه الروح نقطة صراع محورية، ولا تنتصر فيها شخصية هاشم المفعول بها، إلا مع اتساع رؤيته لأرضية ماضيه المتسعة والمتشعبة أرجاؤها.

هذا الماضي الذي لا نراه في النسخة السابقة يبدو هنا أكثر حضوراً، بل لا نبالغ إن قلنا إنه المحرك الرئيسي لأحداث الحاضر، فإذا كانت رؤية السبعينيات تستعرض الحاضر المضارع لهاشم، فرؤية الألفية مهمومة باستلهام الماضي، ومن ثم إذا وضعنا هذه التجربة بجوار تلك اكتملت أمامنا الشخصيات، وبدت أكثر واقعية وإقناعاً، فدوافع أفعالها وردودها المتوقعة أكثر منطقية، وبالتالي يمكن القول بأنه لا معزل بين هذه النسخة وتلك، فكلٌّ منهما مرتبط بالآخر بطريقة أو بأخرى، فما غمض في أحدهما بات جلياً في المعالجة المقابلة، وهكذا.

وفي سياق مماثل، تقول الناقدة الأمريكية بولين كايل: «لا أظن أن أي شخص يحاول أن ينقل عملاً أدبياً عظيماً إلى الشاشة، ستتاح له فرصة كبيرة لإبراز عظمة هذا العمل الفني بعد تحويله إلى عمل سينمائي، كما أن الكثير من ثراء هذا العمل الفني يتعرض للضياع بعد هذا التحول».

والحقيقة أن هذا الاقتباس رغم قسوته الظاهرية، فإنه يمكن أن يحوي بين طياته تفسيراً منطقياً لتلك الرغبة في إعادة تقديم عمل سبق عرضه، فلكل مخرج بصمته الفكرية، التي يبلور بها رؤيته، وتملك حق الاختلاف عن غيرها، وفي التعدد ثراء، أو كما يقال: «لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع».

وأنت عزيزي القارئ، أيهما تفضل؛ بريق الماضي أم طموح الحاضر؟

# سينما # فن # السينما المصرية

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن